الإخشيد والحمدانيون
ولما عاد الإخشيد إلى مصر بعد لقاء الخليفة العباسي رأى سيف الدولة الحمداني الفرصة سانحة للاستيلاء عليها وانتزاعها من أيدي الإخشيديين، بعد أن نجح في تكوين دولة قوية، فسار إلى حلب وقنسرين وحمص وأنطاكية والثغور الشامية، فاستولى عليها، فلما وصلت هذه الأنباء الإخشيد خرج على رأس جيش كبير للقاء سيف الدولة الحمداني، ووقعت بينهما معركة عند قنسرين بالقرب من حلب، وكان النصر فيها للإخشيد، لكنه لم يكن نصرًا حاسمًا، وهو ما دعا الإخشيد إلى الجنوح إلى السلم والميل إلى الصلح، فعقدت بينهما معاهدة في (ربيع الأول 334هـ = 945م)، واتفقا على أن يكون لسيف الدولة من حمص وأعمالها إلى الشام، وأن يكون للإخشيد من دمشق وأعمالها جنوبا، وزيادة في توثيق الصلح بين الطرفين، تزوج سيف الدولة من فاطمة بنت عبيد الله بن طغج، وسار إلى حلب واستقر بها، وسار الإخشيد إلى دمشق واستقر بها إلى أن مات فيها في (24 من ذي القعدة 335هـ = 16 من يونيو 946م)، وهو في السادسة والستين من عمره، بعد أن حكم مصر والشام إحدى عشرة سنة، ونقل جثمانه إلى بيت المقدس حيث دفن هناك، وتولى بعده ابنه أبو القاسم أونجور، ولما كان صغيرا لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره لا يستطيع النهوض بأعباء الحكم، فقد تولى كافور الإخشيد تدبير أمره وإدارة شئون الدولة.
العطاء الحضاري
ونظرًا لطموح الإخشيد في بناء دولة قوية ثابتة الأركان فقد عنى بالجيش وما يتصل به عناية فائقة، حتى بلغ عدده في بعض الروايات التاريخية أربعمائة ألف جندي من مختلف الأجناس في مصر والشام، وأنشأ دارا لصناعة السفن بساحل الفسطاط، وأطلق عليها دار الصناعة الكبرى، وجعل من دار الصناعة التي في جزيرة الروضة بستانا فائق الروعة والجمال بالغ الحسن والبهاء، أطلق عليه المختار، وكان يفاخر به أهل العراق، وأنشأ بستانًا آخر في شمال الفسطاط عرف باسم البستان الكافوري، ومكانه اليوم سوق النحاسين بالقاهرة.
وكان بلاط الإخشيد مجمعا للعلماء وملتقى لأهل اللغة والأدب، يصلهم بعطاياه، ويمنحهم جوائزه، وكانت البلاد غنية بهم، واشتهر منهم في الفقه والحديث أبو إسحاق المروزي، وأبو سعيد عبد الرحمن بن يونس، وفي التاريخ ابن دحية، والكندي وابن البطريق، ومن النحاة أحمد بن محمد بن ولاد، ومن الشعراء أبو الفتح محمد الحسين المعروف بكشاجم.
ونهض الإخشيد بالحياة الاقتصادية للدولة، فزادت غلة الأرض وازدهرت الصنعة ونشطت التجارة، وقد أعجب المؤرخ المعروف أبو الحسن علي المسعودي بالنهضة التي أحدثها الإخشيد، وسجل ذلك في كتبه ومؤلفاته حين زار مصر.
وعنى الإخشيد بزيادة العمران وتشييد القصور وإقامة البساتين وإنشاء المساجد، والبيمارستانات لاستقبال المرضى ومعالجتهم.
وفي عهد الإخشيد ظهر منصب الوزير رسميًا لأول مرة في مصر، وكان أبو الفتوح الفضل بن جعفر الفرات هو أول من تولى هذا المنصب حتى وفاته سنة(327هـ =939م) ثم خلفه ابنه جعفر بن الفضل.
ويذكر للإخشيد أنه كان يجلس للنظر في المظالم يوم الأربعاء من كل أسبوع، وكان ذا دين يحب الصالحين ويتقرب إليهم ويحضر مجالسهم، وقد دفعته هذه النزعة الطيبة إلى هدم أماكن الفساد واللهو وإغلاقها.
وتصفه الحوليات التاريخية بأنه كان مَلِكًا حازما متيقظا لأمور دولته، حسن الرأي والتدبير شديد البطش، ذا قوة مفرطة قوي الساعدين حتى لا يستطيع غيره أن يجر قوسه، وفي الوقت نفسه وصفته بحبه الشديد للمال وميله إلى مصادرة أموال كبار رجاله لأدنى شبهة، أو لسد نفقات الدولة والإنفاق على جيشه، وقد جمع من المُصادرة أموالاً كثيرة بالغ المؤرخون في تقديرها بعد وفاته