كيف تطيع ربك وأمر مولاك؟
هل لديك طاعة؟
لأذنك أو لعينك؟
لرجلك ولسانك؟
كيف تكون هذه الأعضاء مورد طاعة الله؟
وما هو دور القلب في تحريك الجوارح؟
بين الطاعة والعصيان:
إن طاعة الله تتم من خلال الإلتزام بتطبيق البرنامج الإلهي الذي يمثِّل مجموعة الأوامر والتكاليف، والتي تشمل كل جوانب وأبعاد حياة الإنسان ويطلق عليها اسم الشريعة: "ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً"(1).
ويحذرهم في المقابل من مغبة العصيان والخروج عن حدود الطاعة لأن الجزاء أليم: "ومن يتولَّ يعذبه عذاباً أليماً"(2).
ويتضح مما سبق أن طاعة الله لها وجهان:
الأول: امتثال الأوامر الإلهية والعمل للإتيان بالواجبات.
الثاني: امتثال النواهي الإلهية والعمل لترك المحرمات.
وهذا هو الحد الأدنى المطلوب من الإنسان الإلتزام به، ويسمى ب (التقوى)
وقد جاء في تعريف التقوى عن الإمام الصادق ?: "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك". وهذه التقوى تؤدِّي إلى قبول الواجبات مهما كانت قليلة، وفي ذلك يقول الله تعالى: "إنَّما يتقبل الله من المتقين"(1).
القلب إمام الجوارح:
ورد في الحديث الشريف: "قلب المؤمن عرش الرحمن".
القلب هو رئيس البدن والسيّد على الأعضاء تتحرك وفق إشارته وهذا ما تعنيه الآية المباركة: "قل كلّ يعمل على شاكلته"
(2)، أي على شاكلة القلب.
فإذا دخلت عظمة وقداسة الخالق تعالى في قلب الإنسان تنفذ حينها الشريعة الإلهية في جميع كيانه حيث تظهر آثار الطاعة والخضوع في قواه:
(الباطنة) فيخشع ويسلِّم لحكم الله.
(الظاهرة) فيلتزم عملاً بأحكام الله.
جاء في بعض الأدعية: "اللهم اصلح الراعي والرعية".
والمقصود بالراعي هو القلب، وبالرعية الأعضاء.
وإن صلاح الراعي سيؤدِّي حتماً إلى صلاح الرعية واستقامة أمرها وتسخيرها في طاعة الله، أما إذا كان الراعي فاسداً يعمل بإمرة إبليس وجنوده فإن قوى الإنسان وأعضاءه ستتحرك بوحي من راعيها فتعصي وتنال المحرمات ويكون الإنسان حينئذ في عداد الفاسقين.
لذلك كان اللازم علينا الاهتمام بإصلاح القلب الراعي لحركة الإنسان والموجِّه لها إما باتجاه الخير فتكون حركته رحمانية وإما باتجاه الشر فتكون حركته شيطانية.
"ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه. وإنَّه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها" حديث قدسي.
إن نتيجة تقرب العبد إلى الله والنظر دائماً الى طاعته هي أن يصل إلى الحد الذي يكون فيه المولى تعالى سمعه وبصره ولسانه.
جوارح الإنسان أمانة إلهية:
عندما خلق تعالى الإنسان من بدن وروح جعله مسؤولاً عن سلامة تصرفات أعضائه ونقاء روحه، واعتبرها أمانة لديه يستردها عندما يحين الأجل، وهذا مصداق قوله تعالى: "إنَّا لله وأنَّا إليه راجعون"(1).
وهذه الأمانة مسؤولية إن أدّاها العبد تمكن من أداء باقي الأمانات وردها إلى أصحابها، وهي رأس الطاعات التي أمر تعالى بها حين قال: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"(2).
واستعمال البدن في معصية الله يعتبر خيانة للأمانة وإساءة للحق الإلهي فيها.
والجوارح التي تتردد بين الطاعة والمعصية والفاعلة للأعمال والحركات هي:
اللسان الأذن العين اليد الرجل البطن والفرج.
وهذه الأعضاء تسمى مملكة البدن وهي تشهد يوم القيامة على صاحبها وتفضحه على الملأ كما قال الله تعالى: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون"(3).
ولهذه الجوارح حقوق ينبغي آدائها، ولا يتحقق الآداء دون المعرفة، وقد تعرض الإمام السجَّاد? لذكرها في بيانه للحقوق المتعلقة في ذمة الإنسان فيما يسمى ب (رسالة الحقوق).
حقوق الجوارح:
أما حق اللسان فإكرامه عن الخنى (الفحش في الكلام) وتعويده على الخير، وحمله على الأدب، وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشُّنَّعة (الزائد القبيح) القليلة الفائدة.
فدور اللسان هو ذكر الله والدعوة إلى الصالحات، والدلالة به على الله وسبيله، وإظهار الحاجات الطبيعية لحياة الدنيا والآخرة، فإن استعمل في غير ما خلق له فقد تعدى حدّه، وهو أغلب الأعضاء على الإنسان ويكاد يكون السبب الرئيسي لدخول جهنم: "هل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم" الرسول الأعظم.
فمن صفات المؤمن أنَّه إذا تكلم قال خيراً وإلاّ فليصمت كما جاء في الحديث: "وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلاّ لفوهة كريمة تُحدِث في قلبك خيراً، أو تكسب خلقاً كريماً، فإنَّه باب الكلام إلى القلب يؤدِّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر".
فالسمع شريك القول، ومن استمع لناطق فقد عبده فإن نطق عن الله، فقد عبد الله، وإن نطق عن غيره فغير الله عبد، وهذا يفرض اختيار ما يدخل عبر السمع واجتناب سماع الغيبة والفحش والخوض في الباطل. وقصره على استماع الحكمة والعلم النافع، فهو غذاء الروح وينبغي حسن الاختيار لهذا الغذاء، الذي من نتائجه الرحمة للإنسان كما ورد في القرآن الكريم: "فإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون"(1).
وأما حق بصرك فغضه عمَّا لا يحل لك، وترك ابتذاله إلاّ لموضع عبرة تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً فإن البصر باب الاعتبار.
فموضع النظر في الأصل لهداية الإنسان إلى حاجاته، والتأمل في آيات السماء والأرض والاعتبار مما فيها، فينبغي حفظه عن ثلاث:
- النظر إلى محرَّم.
- النظر إلى مسلم بعين الإحتقار أو الحقد أو الحسد.
- الإطلاع به على عيوب المؤمنين والتجسس عليهم.
وتبدو آثار النظر واضحة على إيمان الإنسان في الحديث المبارك: "النظر سهم من سهام إبليس مسموم".
وسموم إبليس تكمن في سلب البركة وإذابة تقوى الله من قلب المؤمن.
وأما حق رجليك فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحلّ لك، ولا تجعلهما مطيتك في الطريقة المستخفة بأهلها فيها فإنَّهما حاملتك وسالكة بك مسلك الدين السبق لك.
وحفظ الرجلين يكون بعدم المشي بهما لأداء أمر محرّم، أو إلى باب سلطان لطلب ما عنده اعتداداً واحتساباً، أو إلى مواضع الشبهات، وفي المقابل فإن السعي بهما لإصلاح أمور المسلمين، أو قضاء حوائجهم، وسلوك طرق طلب العلم والعبادة هي الحقوق الكبرى لحركة القدمين في الحياة.
وفي كلام للإمام الصادق ?: "وزكاة الرجل السعي في حقوق الله تعالى من زيارة الصالحين، ومجالس الذكر، وإصلاح أمور الناس وصلة الرحم والجهاد وما فيه صلاح قلبك وسلامة دينك".
وأما حق يدك فأن لا تبسطها إلى ما لا يحلّ لك فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة الأجل، ومن الناس اللائمة في العاجل، ولا تقبضها مما افترض الله عنها، ولكن توفرها بقبضتها عن كثير مما لا يحل لها وبسطها إلى كثير مما ليس عليها.
وجُلّ الكلام أن على الإنسان كف جارحة يده عن حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم، ورفع أذاها عنهم، وفي الحديث:
"من لطم خد امريء مسلم أو وجهه بدَّد الله عظامه يوم القيامة".
فالأصح هو الاتجاه لصرف قوتها في خدمة الآخرين وإبداء المعونة لهم، وبذل المال لأهل الحاجة والفقر والتصدق علي المساكين.
"إماطة الأذى من طريق المسلمين عبادة".
وأما حق بطنك فأن لا تجعله وعاءً لقليلٍ من الحرام ولا الكثير، وأن تقتصد له في الحلال، ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين وذهاب المرؤة، وضبطه إذا هم بالجوع والظمأ فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل برٍ وكرم، وإن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة.
فالحرص الشديد ينبغي أن يكون في مجال تطييب المأكل واجتناب الحرام والتوقف عند الشبهة، والسعي في طلب الحلال دون الخروج إلى حد الإسراف الموجب لقسوة القلب وفساد الذهن وخراب البدن والتثاقل عن العلم والعبادة والذي يؤدِّي إلى هيجان الشهوة (إذا شبع البطن طغا).
وفي الحديث: "ما ملا ابن آدم شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن كان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسِه" الرسول الأعظم(ص).
"وأما حق فرجك فحفظه مما لا يحل لك والاستعانة عليه بغض البصر فإنَّه من أعوام الأعوان، وكثرة ذكر الموت، والتهديد لنفسك بالله والتخويف لها به".
ولتحقق الحفظ عن الحرام تجب المبادرة إلى التحصن بالزواج.
قال تعالى: "والذين هم لفروجهم حافظون"(1).
وهذا الحفظ يحتاج لمعونة وهي قصر النظر عن الأجنبيات وإشغال القلب عن التفكير بهنَ، فضلاً عن استعمال سلاح الجوع الذي يخمد الشهوة ويؤدِّي إلى فتور الغريزة، وهذه الثلاثة:
النظر، التفكر والطعام هي محركات الهيجان الجنسي ومغارسه.
خلاصة القول:
إن حركة الإنسان إنَّما تكون بأعضائه وما يجول في قلبه وخاطره يتحول إلى أفعال ومقاصد على مستوى البدن، فإن كان القلب مسلماً مؤمناً فجوارحه تنبىء عن ذلك، وإن كان فاسداً مظلماً فالمعصية هي النتيجة، والإنسان مخيّر بين جنة الطاعة ونار المعصية.
"كل نفسٍ بما كسبت رهينة"(1).