سياسيالم ينس الرافعي في كل أدواره السياسية التي مر بها أنه صاحب قلم وفكر؛ فملأ أعمدة الصحف بمقالاته التي توضح موقفه من كثير من القضايا المطروحة، وكانت قضية الاحتلال من أهم القضايا التي تعرض لها، وكان يدعو علنا إلى استخدام القوة في مقاومة المحتل.
وكان يبدي تحفظا على فكرة الدعوة لقضية مصر في الخارج، وكانت دعوته ألا تُمنِّي الأمم المهضومة الحقوق نفسها بالآمال الكبيرة إذا هي استنجدت بالعالم المتمدن، وأسمعته صوت احتجاجها ودعته إلى التدخل بينها وبين غاصبها؛ لأن الدول الآن لم تعد تصغي لصوت الضمير ولا لصوت الحق والواجب، ودائما تنظر إلى مصالحها وتسير وراءها في سياستها.
ودافع الرافعي عن الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر، وأيد وجهه نظر حزبه في تعضيد فكرة الجامعة الإسلامية والدعوة لها والالتفاف حولها، ولم يقف عند تأييد الدولة العثمانية بالقول بل تبعه بالعمل، فعندما نشبت الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا سنة (1329هـ=1911م)، وانتهت بوقوع ليبيا في قبضة الاحتلال الإيطالي، قام الرافعي مع رجال حزبه بجمع التبرعات لتدعيم قوة الدولة العثمانية والدعوة على صفحات الجرائد للتطوع إلى جانب إخوانهم في طرابلس، وعندما سقطت الخلافة العثمانية عل يد أتاتورك كان الرافعي واحدا ممن اشترك في اللجان التي قامت لإحياء الخلافة الإسلامية.
اشترك الرافعي في ثورة 1919 وعدها أعظم الحوادث شأنا في تاريخ مصر الحديث وأبعدها أثرا في حياة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهاجم أسلوب المفاوضات مع المحتل الإنجليزي، وأنه لا استقلال مع وجود قوات أجنبية على أرض مصر، ونادى بالمقاومة وعارض معاهدة 1936 التي أبرمتها الحكومة المصرية مع إنجلترا، وقال بأنها تسجل الحماية البريطانية على مصر وتقرر الاحتلال وتجعله مشروعا، فضلا عن أنها تضع على عاتق مصر من التكاليف والأعباء المالية لتحقيق أغراض إنجلترا الحربية ما تنوء به مواردها، ورفض أن تدخل مصر الحرب العالمية الثانية وأن تحتفظ بجيشها وقواها المالية والمعنوية للدفاع عن استقلالها وكيانها ومصالحها القومية. ويذكر للرافعي أنه كان أحد الموقعين على المذكرة التي قدمتها المعارضة إلى الملك فاروق وأدانت مسلك بعض رجال الحاشية الملكية الذين كان يحقق معهم في مسألة الأسلحة الفاسدة، وأوضحت أن الحكم أصبح لا يحترم الدستور، وأن النظام النيابي أضحى حبرا على ورق، وأن سمعة الحكم المصري في الخارج أصبحت مضغة في الأفواه، وأنه يجب تصحيح الأوضاع الدستورية وأن تعاد الأمور إلى نصابها.
وشغلت قضية وحدة وادي النيل فكر الرافعي، وكان يرى أن السودان جزء من مصر وأنها بالنسبة لها مثل الإسكندرية أو قنا لا يمكن فصل أي منها عن مصر، وأن قضية السودان أجدر من مسألة فلسطين بجهودنا، وأن مصر شغلت عن قضية السودان الحيوية بقضية فلسطين وهو ما استغلته السياسة الاستعمارية لتنفيذ برامجها الانفصالية عن السودان.
على الرغم من النشاط المتعدد الذي بذله الرافعى في الحركة الوطنية فإنه لم ينل شهرته إلا بسبب كتاباته التاريخية التي لقيت إقبالا على الاطلاع عليها، وأسهمت في تشكيل العقلية التاريخية لأجيال من الشباب والقراء، وكان لسمعة الرجل النظيفة وطهارة يده وإخلاصه السياسي أثر كبير في ذيوع مؤلفاته وانتشارها بين قطاعات عريضة من الشباب.
وقد بدأ الرافعي تأليف سلسلة كتبه التاريخية بعد أن انسحب من الترشيح لعضوية البرلمان، ونشأ عن ذلك فسحة كبيرة من الوقت استثمرها في كتابة التاريخ فأخرج الجزأين الأول والثاني من كتابه "تاريخ الحركة الوطنية وتطور نظام الحكم في مصر" سنة (1348هـ= 1929م)، وأعقبه في السنة التالية بكتابه "عصر محمد علي"، ثم أخرج سنة (1351هـ=1932م) كتابا في جزأين بعنوان "عصر إسماعيل".
وبعد 5 سنوات أصدر كتابه "الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي"، أعقبه سنة (1358هـ=1939م) بكتابه "مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية" استعرض فيه تاريخ مصر القومي من سنة (1310هـ=1892م) إلى سنة (1326هـ=1908م) من خلال تاريخ كفاح مصطفى كامل، ثم أخرج بعد ذلك كتابه "محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية" استعرض فيه تاريخ مصر من سنة (1326هـ=1908م) حتى سنة (1338هـ=1919م)، ثم أصدر سنة (1361هـ=1942م) كتابه "مصر والسودان" في أوائل عهد الاحتلال، تناول فيه تاريخ مصر بين سنتي (1300هـ=1882م) و(1310هـ=1892م) وهي السنوات الأولى للاحتلال البريطاني.
وفي سنة (1366هـ= 1346م) أصدر الرافعي في جزأين كتابا بعنوان "ثورة سنة 1919" تناول فيه تاريخ مصر القومي منذ سنة (1333هـ=1914م) حتى سنة (1340هـ=1921م)، وتلاه بكتابه الكبير "في أعقاب الثورة المصرية" وصدر في 3 أجزاء بين عامي (1367هـ-1371هـ= 1947-1951م) عرض لتاريخ مصر من (سنة 1340 هـ=1921م) حتى سنة (1371 هـ=1951م).
وبعد قيام ثورة 1952 أصدر في سنة 1377 هـ=1957م كتابا بعنوان مقدمات ثورة 23 يوليو 1952م تلاه بكتابه ثورة 23 يوليو 1952 عرض فيه لسبع سنوات من عمر مصر بين عامي 1952-1957م.
وله بالإضافة إلى ذلك عدة كتب، منها "مذكراتي"، "والزعيم الثائر أحمد عرابي"، و"شعراء الوطنية"، و"أربعة عشر عاما في البرلمان".
ولم تسلم كتب الرافعى التاريخية من النقد والاتهام بعدم الالتزام بالمنهج التاريخي الصارم، وانحيازه للحزب الوطني الذي ينتمي له، وتأريخه للأحداث من خلال هذه النظرية الحزبية، وتعاطفه الشديد مع مصطفى كامل، وإسباغه عليه كل مظاهر النبوغ والعبقرية والبراءة من كل سوء، وكذلك فعل مع محمد فريد، وإدانته الشديدة لأحمد عرابي ورفاقه، واتهامه للثورة العرابية بأنها سبب كل بلاء، وأنها كانت وراء الاحتلال البريطاني، وهجومه على حزب الوفد وإنكاره عليه إجراء مفاوضات مع بريطانيا؛ لأن أحد مبادئ الحزب الوطني الراسخة كانت لا مفاوضة إلا بعد الجلاء.
وعلى الرغم من ذلك فإنه لم تحظ كتب تتناول تاريخ مصر الحديث بالذيوع والانتشار مثلما حظيت كتب الرافعى، في الوقت الذي لم تكن فيه الساحة خالية للرافعي وحده بل كانت زاخرة بأساتذته التاريخ العظام من أمثال محمد شفيق غربال، ومحمد صبري السربوني، ومحمد فؤاد شكري، وأحمد عزت عبد الكريم، ولم يكن صاحب سلطان حتى يفرض كتبه على الساحة الثقافية في مصر. وقد قدمت مؤلفاته المعرفة التاريخية لأجيال من المصريين، وبقيت مرجعا مهما لكل من يرغب في معرفة تاريخ مصر في العصر الحديث على الرغم مما وجه إليها من انتقادات.
.. ختاما
نال الرافعي تقدير حكومة ثورة يوليو واحترامها، واعتبر اللواء محمد نجيب قائد الثورة كتب الرافعي الأساس للحركة التي قام بها الجيش وأنها ذخيرة وطنية للأمة، وقد منحته الدولة سنة (1381هـ=1961م) جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية. وقد شهدت الفترات الأخيرة من حياة الرافعي تقاربا مع حكومة 1952م وتعاونا معها ودعمه لنظمها عبر ما كان يكتبه من مقالات في الصحف، في الوقت الذي كانت تتقلص فيه الديمقراطية. وقد سجل في كتابه "ثورة 23 يوليو" 7 سنوات من عمر مصر، ولم يتعرض فيه لما اتخذه النظام من إجراءات تعسفية في حق المعارضين والزج بهم في السجون دون محاكمات حقيقية، وكان هذا عجيبا منه؛ لأنه لم يفقد شجاعته حين كتب عن عصر إسماعيل في عهد ابنه الملك فؤاد، وكشف ما له وما عليه، وكتب تاريخ الملك فؤاد بهذا النهج في عصر ابنه فاروق وأبان عن الأخطاء التي وقع فيها أبوه.
ويبدو أن الرافعي استشعر حرج موقفه التاريخي فتوقف عند سنة (1377هـ= 1957م) ولم يستكمل مسيرة التأريخ للنظام الجديد بعد أن زاد استبداده واشتدت قبضته على الناس وبطشه بالمعارضين، وكان هذا إعلانا عن رأيه في السياسة الجديدة التي يتبعها النظام الجديد.
وفي أخريات عمره دهمه المرض، وظل يعاني منه نحو عامين حتى لقي ربه في (19 من شعبان 1386 هـ=3 من ديسمبر 1966م).