واستدل الجمهور بما يلي: (أ) أخرج مسلم وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشرُ فأراد أحدُكم أن يضحِّيَ فلا يأخذْ من شعره ولا بشره شيئًا" (10). قال الشافعي: إن قوله "فأراد أحدكم" يدل على عدم الوجوب.
(ب) وأخرج النسائي بسند صحيح والدار قطني والبيهقي، وصححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أُمِرْتُ بيوم الأضحى عيدًا جعله اللهُ عزَّ وجلَّ لهذه الأمة"، فقال الرجل: أفرأيتَ إنْ لم أجدْ إلا مَنِيحةً أنثى أفأُضحي بها؟ قال: "لا، ولكن تأخذ من شعرك، وتقلِّم أظافرَك، وتقص شاربَك، وتحلق عانتَك، فذلك تمامُ أضحيتِك عند الله عز وجل" (11). (والمَنِيحة: هي الناقة أو الشاة تستعار ليُنتَفع بلبنها ثم تُعاد إلى صاحبها).
(ج) وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لما ضحى قال: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" (12).
(د) وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصحَّحه الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدَ الأضحى فلما انصرف أُتي بكبشٍ فذبحه، فقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي" (13). ففي هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عمن لم يضحِّ من الأمة، فدل ذلك على سقوط الأضحية عن الأمة.
(هـ) وأخرج الترمذي وغيره عن جَبَلَة بنِ سُحَيْمٍ أن رجلاً سأل ابنَ عمر عن الأضحية أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فأعادها عليه فقال: أتعقل؟ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون (14).
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، ولكنها سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَحَبُّ أن يُعْمَل بها، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك). وكأن الترمذي رحمه الله فهم من كون ابن عمر رضي الله عنه لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب، وقد عُرف ابن عمر رضي الله عنه بحرصه على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يصرح بالوجوب. وقد سبق ما نقله البخاري عن ابن عمر أنه قال: هي سنة ومعروف.
(و) أفعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب، فأخرج البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه أنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما، فيظن من رآهما أنها واجبة، وأخرج عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان إذا حضر الأضحى أعطى مولى له درهمين فقال: اشترِ بهما لحمًا، وأخبِر الناس أنه ضحى ابنُ عباس (15).
والروايات عن الصحابة والتابعين في هذا المعنى كثيرة دالة على أنها سنة، روى عبد الرزاق أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد هممتُ أن أدع الأضحية، وإني لمن أيسركم بها؛ مخافةَ أن يُحسَب أنها حتمٌ واجبٌ (16)، وروى عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجبة الضحية على الناس؟ قال: لا، وقد ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).
وقول الجمهور هو الراجح إن شاء الله تعالى.
آداب الأضحية :
ثمة آداب شرعية ينبغي أن يلتزم بها من أراد أن يتقرب إلى الله بهذا العمل الصالح، منها ما يتصل بالمضحي نفسه، ومنها ما يتصل بعملية الذبح على النحو التالي: آداب الْمُـضَـحِّي: 1- يجب أن يتحرى المضحي الإخلاص لله في عمله؛ إذ الإخلاص سر قبول الأعمال، والعبرة ليست بإراقة الدماء وإعطاء اللحوم، ولكن العبرة أساسًا هي بتقوى الله عز وجل.
فقد قال تعالى @831;لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ@830; (الحج: من الآية 37) وقال تعالى @831;قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)@830; (الأنعام)، والنسك هو الذبح تقربًا إلى الله. فإذا تجاوز المسلم هذه المعاني، وخرجت الأضحية على سبيل المباهاة والتفاخر والرياء؛ فقد حبط عمله وبطل أجره.
2- يستحب أن لا يأخذ المضحي من أظفاره وشعره شيئًا إذا دخلت عشر الحجة، وكان راغبًا في التضحية، لما أخرجه مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا بشره شيئًا" (18).
ولما أخرجه النسائي والدار قطني والبيهقي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية، وأنه قد لا يجدها، فقال: "قلِّمْ أظافرك وقصَّ شاربك واحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل" (19)، وهذا فيه شرعية هذه الأفعال في يوم التضحية وإن لم يترك من أول شهر الحجة.
وذهب الإمام أحمد وإسحاق إلى أنه يَحـرم تقليم الأظفار وقص الشعر وحلق العانة ونحو ذلك لمن أراد التضحية؛ للنهي عن ذلك، وإليه ذهب ابن حزم، ونقل عن أم سلمة وغيرها أنهم أفتوا بذلك، ونسب هذا الرأي إلى الشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وأبي سليمان والأوزاعي. لكن النووي نسب ذلك لبعض الشافعية، وقال: قال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنْزيه وليس بحرام، وقال أبو حنيفة: لا يُكره، وقال مالك في رواية: لا يُكره، وفي رواية: يُكره، وفي رواية: يحرم في التطوع دون الواجب.
واحتج القائلون بالكراهة دون التحريم بأنه قد قامت القرينة على أن النهي ليس للتحريم، وهو ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما أحله الله حتى نحر الهدي (20).
قال الشافعي: فيه دلالة على أنه لا يحرم على المرء شيء يبعثه بهديه، والبعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية. وحمل أحاديث النهي على كراهة التنْزيه. وتعقب القائلون بالتحريم ذلك بأن هذا قياس منه، والنص قد خص من يريد التضحية بما ذكر. والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: الحكمة هي التشبه بالمحرم، والله أعلم.
3- يستحب للمضحِّي أن يتولى الذبح بنفسه، أو يشهد الذبح إذا لم يذبح بنفسه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح أضحيته بيده كما في حديث أنس الذي سبق من قبل، وكان يأمر نساءه وبناته أن يشهدن الذبح، فقد روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة- أو لفاطمة-: "اشهدي نسيكتكِ؛ فإنه يُغفَر لك عند أول قطرة من دمها" (21).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن (22).
آداب ذبح الأضحية :
ثمة آداب ينبغي أن يراعيها المضحي في اختيار أضحيته وفي طريقة ذبحها، وهاك أهمها: 1- استسمان الأضحية واختيارها من أطيب المال، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: ومن يعظم شعائر الله، قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين سمينين. وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نُسَمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسَمِّنون (23).
وكره بعضهم تسمين الأضحية؛ لئلا يتشبه باليهود، وهذا الحديث حجة عليهم. وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ضحى مرة بالمدينة، قال نافع: فأمرني أن أشتري له كبشًا فحيلاً أقرن، ثم أذبحه يوم الأضحى في مصلى الناس، قال نافع: ففعلت… الحديث (24). وقال عروة بن الزبير: لا يُهدِي أحدكم لله ما يستحي أن يهدي لكريمه، الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له (25).
2- الرفق بالضحية، وذلك بشحذ السكين، وبإضجاع الغنم وعدم ذبحها قائمة ولا باركة، كما في حديث عائشة؛ لأنه أرفق بها، وعليه أجمع المسلمون. وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبْح، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه فلْيُرِح ذبيحته" (26).
ويكون إضجاع الغنم والبقر على جانبها الأيسر؛ لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى، وإمساك رأسها باليسار، ويضع رجله على صِفاح الكبش ليكون أثبت له وأمكن؛ لئلا تضطرب الضحية. وأما الإبل فتنحر وهي قائمة مقيدة، فعن زياد بن جبير قال: رأيتُ ابن عمر رضي الله عنه أتى على رجل قد أناخ بدَنَتَه ينحرها، فقال: ابعثها قيامًا مقيَّدة، سنةُ محمد صلى الله عليه وسلم (27)، أي نحرها على هذه الهيئة هو سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أوضح جابر بن عبد الله هذه الهيئة بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البَدَنَة معقولة (أي مقيدة) اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها (28).
3- الذبح بعد صلاة العيد، لأن الذبح قبل الصلاة لا يجزئ كما سيأتي في بيان وقت الأضحية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل الصلاة بأن يعيد الذبح. 4- التسمية، لقوله تعالى: @831;وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ@830; (الأنعام: من الآية 121)، ولقول أنس بن مالك في حديث ذبح النبي صلى الله عليه وسلم أضحيتَه: ويسمي ويكبر، وجاء ذلك مفسرًا في لفظ عند مسلم بأنه قال: بسم الله والله أكبر.
5- التكبير، لقوله تعالى: @831;وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ@830; (البقرة: من الآية 185)، ولقوله في هذا الحديث: ويسمي ويكبر.
6- تسمية من يضحي عنهم، لما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به، فقال لها: "يا عائشة، هلمي الْمُدْيَة (يعني السكين)" ثم قال: "اشحذيها بحجر"، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به (29).
7- 8- توجيهها للقبلة عند الذبح، والدعاء بقبول الأضحية وغيرها من الأعمال؛ لحديث عائشة السابق عند مسلم، ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال عند التضحية وتوجيهها للقبلة: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين؛ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك، عن محمد وأمته" (30).