في خضم المأساة الحزينة التي لحقت بمدينة جدة (عروس البحر الأحمر)، كانت هناك بوادر بياض جميل تمثلت في قصص رائعة عن أولئك الذين عملوا ساعات طويلة يساعدون أولئك الذين حاصرتهم المياه, والذين كان قدرهم المعاناة بشكل أو بآخر بسبب ما حصل. قصص كثيرة على الإنترنت تؤكد هذه الروح الإنسانية التي تصعد فجأة لتسيطر في وقت الأزمات فوق كل روح أنانية أخرى، يبحث فيها الإنسان عن مصلحته قبل مصلحة الآخرين
*******تحصل الكوارث في كل مكان، ومهما كان الاستعداد لها كبيرا، فإن هناك ما يتجاوز الاستعدادات، والروح الإيجابية التطوعية الإنسانية هي التي تعوض هذا الفارق، وتحول عموم الناس إلى جيش مدني يعمل على مساعدة الآخرين بجميع الطرق لتجاوز الآثار العميقة للأزمة
منذ عدة سنوات ضرب إعصار رملي (تورنيدو) ولاية أوكلاهوما وسوى بأحد مدنها الصغيرة الأرض في واحد من أكبر الأعاصير التي ضربت أمريكا في تاريخها القصير، وكان منظرا قاسيا حزينا يستدعي كثيرا من التأمل والعبر، ولكن ما كان مذهلا أن الوفيات لم تتجاوز عدة أشخاص، لأنه تم تحذير الناس مسبقا وغادر معظم الناس بيوتهم إلى المدن المجاورة.. رغم ذلك فقد استنفر أهل الولاية أنفسهم وبدأوا في حملة تبرعات ضخمة تثير كثيرا من الإعجاب والدهشة، حيث أعلنت إحدى كبرى الأسواق تخصيص مواقفها لوضع التبرعات، وكانت الناس تذهب بأعداد هائلة لتشتري مختلف الاحتياجات من السوق ووضعها في المواقف، كما فتح الناس بيوتهم للاجئين لتنام الولاية في اليوم التالي في هدوء بعد أن ضمدت الكثير من جراحها عبر هذا العمل التطوعي المميز
*******
نحن أولى بتلك الروح الإيجابية، وهو أمر نملكه لأننا أمم تملك كثيرا من العاطفة والحس الإنساني، والأهداف المادية في الحياة تقودنا بشكل أقل، وهناك فسحة في قلوبنا كبيرة للناس من حولنا، ولكننا نحتاج إلى ما ينظم هذه الروح، ويدعمها ويرشدها كيف تتعامل بسرعة وذكاء في أوقات الكوارث والأزمات. كل مدينة تحتاج إلى بعض التنظيم الذي يساعد الناس على تقديم ما لديهم، وهذا التنظيم يمكن أن يتم من خلال المتطوعين أنفسهم والذين يجهزون عددا من الإجراءات الأساسية حتى يمكن لكل الناس الذين تتصاعد رغباتهم الإنسانية تقديم ما لديهم في وقت الشدة
*******
لو تأملت النصوص الإسلامية لوجدت تحفيزا هائلا على حب الناس، حبا غير محدود، حبا لا يعرف التمييز بين شخص وآخر، حبا لا يقوم على أي مصالح، تأمل هذا الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (رواه البخاري ومسلم)، نص يبعث القشعريرة في النفوس لأنه يطالب الإنسان المسلم بحجم يشبه المستحيل في التفاني للمساواة بين مراعاة احتياجاته واحتياجات الآخرين
إنني أستغرب أن الوعظ الإسلامي لا يركز كثيرا (ما عدا بعض الاستثناءات) على هذه الروح، رغم وضوحها في النص الشرعي، ربما رغبة في الاختلاف عن الوعظ المسيحي الذي يعطي كثيرا من الأولوية للمعاملة الإيجابية للآخرين، وربما لأن القضايا السياسية والمظاهر الدينية لديها أولوية أكبر لدى الوعاظ، وربما لأن الحب اللامحدود للآخرين أيا كانوا يتعارض مع بعض الممارسات التي تطالب بالتعامل الجافي والقاسي مع غير المتدينين
*******
لدى جدة الكثير لتفعله لتعود عروسا كما كانت، ولا يمكن للمؤسسات الحكومية فعل ذلك وحدها وإلا فإن الأمر سيطول كثيرا، ولذا أدعو إلى تسريع بناء أطر للعمل التطوعي حتى يشارك الناس في علاج آثار السيول، ثم ليشارك الناس في الانتقال بجدة من حسن إلى أحسن. هناك تجارب عالمية بسيطة في إجراءاتها ولكنها مذهلة في آثارها، وأنا أدعو أيضا إلى محاولة الاستفادة منها، لكننا نملك حب الوطن والناس، ولكن نحتاج إلى من يرشدنا إلى ما ينبغي فعله
قلوبنا تدعو للضحايا بالرحمة، ولأسرهم بالصبر، ولجدة بأن تتجاوز الأزمة، وقلوبنا كلها ثقة بأن المسؤولين وعلى رأسهم الأمير خالد الفيصل سيعملون ليل نهار حتى تعلو البسمة على كل الشفاه